حقيقة مفهـوم الســاعـة
يعتبر موضوع الساعة من المواضيع الغامضة والمشوشة، ليس عند المسلمين وحسب، بل عند غيرهم من أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية.
لقد خلط علماء المسلمين، وعلماء النصارى، بين الساعة التي يأتي بها السيد المسيح عليه السلام، وبين الساعة التي تقوم بها القيامة. فكان معنى قولهم إذ قالوا: إن الساعة التي يأتي بها السيد المسيح، هي نفسها الساعة التي بها تقوم القيامة، وكما أن مفهوم الساعة غامض ومشوش لديهم، فإنهم لم يدركوا الغاية التي يأتي بها السيد المسيح عليه السلام.
فاليهود مثلاً الذين لم يعترفوا بالسيد المسيح عندما جاء في المرة الأولى، يأملون من مجيء السيد المسيح الحقيقي بزعمهم، أن يعيد لهم عزهم الآفل ومجدهم المنهار، وذلك بعد أن يصبح الملك العالمي.
والنصارى يأملون أيضاً، أن يدخلهم السيد المسيح ملكوت الآب، بعد أن كفر عنهم سيئاتهم وافتدى بدمه الخطيئة الأولى.
أما المسلمون فغايتهم منه عند مجيئه، أن يقتل الدجال واليهود، ويكسر الصليب، من غير أن تمسهم الأحداث التي ترافق مجيئه بسوء، وهم الآن على ما هم عليه، تلك أمانيهم، أما الحقيقة فليست كذلك، الحقيقة أن تتعرف على رب الحق والحقيقة، فإذا آمنت بالله من ذاتك بذاتك، عن طريق الاستدلال بالكون حق الإيمان، تجد كل مسألة في القرآن واضحة أشد الوضوح، مبينة كفلق الصبح.
إن الله سبحانه وتعالى قد ارتضى للبشرية حدوداً، ورسم لها سنناً، وأنزل إليها شرائع، فإذا تجاوزت البشرية تلك السنن، وتخطت تلك الحدود، وأهملت الشرائع، فإنها تفسد النفوس وبفسادها تفسد الحياة، وبما أن الفاسد المفسد والمتعمِّد بطغيانه، لا خير فيه، فالنار عندئذ مثواه، وبئس المثوى والمصير.
ولا أظن بعد هذا الذي بيناه، أن تظنَّ أن البشرية بمفازة من الهلاك، بل الأصح أنها أصبحت على قمة الهاوية، أو على شفا جرف هار، وهم الآن في سكرتهم يعمهون، وفي غمرتهم لاهون. ولقد أنذرنا تعالى كثيراً في كتابه الكريم، ولكن الآيات والنذر لا تغني لقوم لا يؤمنون. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ،وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ،كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ،أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ،أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ،سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ،بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (40ــ46) سورة القمر.
أما وقد بين لنا تعالى نوع البلاء الذي أصاب كل أمة من تلك الأمم السابقة، فقوم سيدنا نوح وقوم فرعون قد أغرقهم، وقوم ثمود أهلكت بالطاغية، وعاد أهلكت بريح صرصر عاتية. أما أمم هذا العصر، فسوف تهلك بنار حامية، لا تبقي ولا تذر.
من كل ذلك نستنتج أنَّ البلاء بات وشيكاً، وفي أية لحظة، والكارثة آتية لا ريب فيها، وهي ليست من الظالمين ببعيد.
إن البلاء ليس قدراً محتوماً، لو رجعنا عمّا نحن فيه، لارتفع البلاء، ولأوجد الله لنا وسيلة، تخلصنا من هذا الخطر الجاثم على صدرنا، أمماً كنّا أم أفراداً.
قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (98) سورة يونس. فبابُ التوبة والرجوع إلى الله مفتوح ولا يغلق أبداً إلا عند الموت أو وقوع الهلاك.
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء.
لقد أطلق رب العالمين على هذه الكارثة اسم (الساعة) والساعة أينما ذكرت في القرآن فإنها عموماً تحمل معاني عدة: الساعة التي يموت فيها الإنسان، أو الساعة التي تقوم بها القيامة، أو الساعة التي نحن بصددها.
وإذا تركنا ساعة الموت، وساعة يوم القيامة حالياً واكتفينا بالساعة التي يأتي بها السيد المسيح عليه السلام، لوجدنا أن تسمية الحرب العالمية أو الحرب النووية القادمة، هي تسمية للحرب المطهِّرة: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } (46) سورة القمر: وهي الساعة المرافقة لقدوم السيد المسيح عليه السلام المنقذ للبشرية رسول السلام والطمأنينة والأمان بعد القلق المرهق والشقاء وطوبى لمولود زمانه. إذ وعده تعالى بقوله: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران.
وقد حق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة) أخرجه البخاري ومسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلملاَ تَقُومُ السّاعَةُ إلاّ عَلَىَ شِرَارِ الْخَلْقِ): وهي ساعة هلاك العالم الفاسد، وقصم ظهر الكفر وأهله. إذ أن الحرب النووية القادمة تمتاز كغيرها من الحروب بالسرعة والمفاجأة، ولكن هذه الحرب تختلف من حيث الغاية عن الحروب التي سبقتها، إذ في الحروب السابقة كانت الغاية من السرعة والمفاجأة هي إحراز النصر، أما في هذه الحرب، أي الحرب النووية والهيدروجينية، فغايتها اتقاء خطر الفناء، والقضاء على الخصم قضاء تاماً، قبل إعطاء الفرصة له ليتمكن من الرد على خصمه. ولذا فإن البادئ في هذه الحرب، سوف يلقي أكبر كمية ممكنة من القنابل الذرية والهيدروجينية وغيرها من أنواع الأسلحة ذات التدمير الشامل، في الدقائق الأولى، للقضاء على العدو قضاءً مبرماً، ومحوه من الوجود، غير أن وسائل الإنذار الحديثة، والتيقظ التام سوف تفوت على البادئ هذه المباغتة، وسيتمكن الخصم من الرد عليه، وإفنائه أيضاً. لذلك فإن الحرب القادمة لا نصر فيها، بل هلاك شبه مبرم. ومن هنا يتبين أن الحرب القادمة سوف تكون سريعة، لا تتجاوز الساعة من الزمن، وسوف تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ..}: بعد بيانك هذا:{..عَنِ السَّاعَةِ..}: يسألونك عن الساعة متى وقوعها، بدلاً من أن يفكِّروا في قولك ويتبّعوه، حيث إنهم لم يعبؤوا بقوله سألوه هذا السؤال:{..أَيَّانَ مُرْسَاهَا..}: متى وقوعها؟. {..قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ..}: لا أحد يعلم وقتها، أنا مُبلّغ لا أعلم الوقت، ولكن لها إشارات وعلامات.
{..ثَقُلَتْ..}: عظُمت: هولها عظيم، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، نيران وزلازل، لا تبقي ولا تذر. أتدري ما فيها من هول؟. فقط تسأل عنها!. ماذا أعددت لها؟.
لو فكَّر لعرف عظمة الله ولما سأل هذا السؤال، بل لخاف منها: {..فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..}: هول، شدائد من السماء والأرض، من الأرض ينبعث بلاء، ومن السماء بلاء: {..لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً..}: على غفلة، على حين غِرَّة. لكن البلاء ما هو فقط بلاء الدنيا: بلاء في الدنيا وفي الآخرة: {..يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا..}: كأنك لا تعرف شيئاً عنها، ولا تعلمها. كأنك لا تدري عنها شيئاً: تريد أن تُخلِّصهم من العذاب، وهم يريدون أن يمتحنوك امتحاناً. وهم كفرة اليهود، إذ أرادوا امتحان الرسول لأنها مذكورة عندهم: {..قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ..}: وقت وقوعها لا يعلمه سواه: {..وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(187) سورة الأعراف: هذا الهول الذي فيها.
لا يعلمون شيئاً عنها ولا يفكِّر فيها أحد. والله عليم أن وقتها قريب جداً وجميع الإشارات وقعت. فما أشقى من لا يفكِّر ويستعد لها!. كما أنه ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن القنابل النووية والهيدروجينية: (لا تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن أماكنها وترون الأمور العظام التي لم تكونوا ترونها) كنز العمال ج14 رقم/38571/.
إن ما يحول بين الناس وبين الله، هو حب الدنيا الدنية بهذه الحضارة المادية العمياء المدمرة، التي طغت على عقول الناس وقلوبهم، لذا فإن الرجوع إلى الله مرهون بإزالتها، وبما أن البشرية لا تتنازل عن هذه الحضارة الدنيوية طوعاً، فإن الله هو الذي يزيلها، وعلى أيدي صانعيها، قال تعالى في سورة النحل (26): {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}: عملوا تدبيرات وحيل وترتيبات لرد الحق فأتى الله بنيانهم من أصله فخرَّ عليهم ما صنعوه، ونزلت قنابلهم عليهم، هم دبّروا لصدِّ الناس عن الحق، والله أرسل لهم بلاء فالسكين التي حدَّها ضرب نفسه بها، أذاه عاد عليه: {..ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ..}
إن البشرية لم ولن تمر عليها كارثة بلغت من الشدة مثل ما ستبلغه هذه الكارثة. ولن ينجو منها إلا كل مؤمن، أو من عنده القابلية للإيمان. أما الملاجئ الأرضية فإنها لن تغني من الله شيئاً، إن شاء أن يهلكهم، ومنطق هذه الحرب يؤكد ذلك، فالذين لم يُقض عليهم من الصدمة الأولى، فإن الإشعاعات الذرية والتلوث، وفساد الجثث، والزلازل، ستحول بينهم وبين الحياة، بعد خروجهم من الملاجئ، ولا ندري أيضاً ما سيخرج لهم من باطن الأرض. فالإنسان لا يستطيع أن يبقى في الملجأ زمناً طويلاً، ولو افترضنا أن كل شيء قد هيئ فيه، فإن الحياة خارجه غدت مستحيلة، فكل شيء خارج الملجأ غدا هامداً لا حراك فيه، هدوء مرعب، إلا من أنين الرياح، لا أهل ولا بيت ولا ولد إذ أن كل شيء قد تحول إلى رماد.
ترى ماذا تتصور أن تكون حال هذا الإنسان الذي خرج من ملجئه بعد حين، ناهيك عن الغبار الذري المرعب وآثاره السامة، إن حالته النفسية سوف تبلغ حد الجنون أو الانهيار. وسيدرك المتفائلون بإعادة الحضارة بعد الحرب من جديد، أنها أماني، وأن ذلك لرجع بعيد.
إن الدمار سوف يكون متناسباً مع شدة الفسق، وعلى أساس ذلك فإن مناطق المعسكرين الشرقي والغربي، ستصبح قاعاً صفصفاً، وستكون جثث شعوبها حطباً لتلك النار، ومن ثم رماداً تذروه الرياح. وسوف لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم بعد ذلك ركزاً.
أما منطقة الشرق الأوسط خاصة التي هي مهد الأنبياء، فسوف يكون حظها من الدمار أقل، وهذا لا يعني أن تبقى فيها بعض مظاهر الحضارة فهذا محال، فهي كغيرها من المناطق، ستعاني من الزلازل الأرضية والمجاعة، الشيء الكثير، وسوف تكون مسرحاً للحروب التقليدية، ولن ينجو منها إلا القليل، بعد أن تكون الحرب قد أخرجت لهم كل أمراضهم النفسية، وهيأتهم للطهارة نتيجة التجائهم إلى الله، من شدة ما سيعانون، من الجوع والخوف والألم.
لذلك فالملاجئ التي يجب أن نعدها فقط، هي الالتجاء إلى الله، والالتجاء من الآن، ولن يفيد الالتجاء إذا أزفت الآزفة، إذ ليس لها من دون الله كاشفة، فالتوبة، والاستعداد، والتحرُّس يجب أن يكون قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الدعاء.
انظروا إلى الأمم السابقة ماذا حلَّ بهم:
قال تعالى في سورة الأنبياء (11):{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً..}: مثلكم: {..وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ }: فكِّر بمن سبق أين هم الآن؟.. ماذا كانت نتائج أحوالهم؟.. وأنتم إن لم ترجعوا للحق ستُهلكون: هذا تهديد عام لكل منحرف.
فالإنسان ولو عرف بفكره فلن يستفيد شيئاً، لا بدَّ من العقل: بالعقل الإنسان يعرف الحقائق. {..فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا..}: جاء البلاء ، جاءهم الهلاك: {..إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ}: من البلد، تراكضوا ليخلصوا من البلاء. لمَّا حصلت الزلازل: أين المفر؟.. ستُسأل غداً عند الموت عن الصوم، الصلاة، الحج، كل شيء له صورة وحقيقة، والحقيقة بلا صورة لا تفيد، والصورة بلا حقيقة لا فائدة منها: لا بدَّ من الجمع، فالذي يأتي بالصور لا يستفيد شيئاً. {..لَا تَرْكُضُوا..}: أنتم غداً مثلهم. قلنا لهم قبل ذلك على لسان رسلهم لا تركضوا غداً عند البلاء، هكذا قالت الرسل: {..وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ..}: لا تفسدوا الخلق, عملكم هل هو منطقي وطيِّب؟.. {..وَمَسَاكِنِكُمْ..}: التي تسكنونها، ما سكنت نفوسكم فيه من الدناءة والخبث، وانظروا إلى هذه المدن من حكمها؟. من سكن بها؟. أين هم الذين سبقوا وعاشوا قبلك؟.
هل ستبقى أنت وتخلد؟. {..لَعَلَّكُمْ..}: تعرفون إن فكَّرتم فتدركون أنكم بعد هذه الحياة:
{..تُسْأَلُونَ}: تعرف لماذا خلقت وتتدارك الأمر فتعرف أنك ستُسأل عن هذه الأشياء كلها: ستُسأل عن كل ما فعلت. أما إن لم تفكِّر، فلن يخطر السؤال لك على بال.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا..}: عند نزول البلاء عليهم: {..إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}: ولكن ما الفائدة من هذا القول عند البلاء والهلاك؟.. {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ..}: ومعارضتهم للحق وتكذيبهم لرسلي: {..حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}: إذا ظلَّ الإنسان متعلِّقاً بالدنيا "لا يفكِّر بالموت"، فإن لم يفكِّر بالموت، يظل مكذِّباً للحق.
وهذه الواقعة، سوف لا ينجو منها إلا كل مؤمن، أو من هو قابل للإيمان، إذ في هذه الساعة سوف يهلك كل مجرم، أما الذين لديهم قابلية للإيمان، فإن الحق سيعرض عليه إما على لسان السيد المسيح عليه السلام، وإما على لسان أتباعه، فإن آمن واهتدى وصدق بالحسنى، فسوف يحيا حياة طيبة في الدنيا، وفي الآخرة يكون من الصالحين، وإلا سيهلك مع الهالكين. إن البلاء سوف لا يأخذ الصالح بجريرة الطالح، كما أنه ليس صحيحاً المثل القائل: (الرحمة مخصصة والبلاء يعم) وهو مثل مغلوط، فالقرآن الكريم كلُّه وبه الحجة البالغة، لا يؤيد هذا الزعم، بل يبين أن الرحمة مخصصة، والبلاء مخصص أيضاً. إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا عن الأقوام السابقة التي أهلكت، أنه قد نجّا من بينهم المؤمنين، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (58) سورة هود. {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (66) سورة هود.
وقل مثل ذلك عن قوم لوط، وأهل مدين وغيرها من الآيات.
تلك سنن وقوانين لا تتبدل ولا تتغير، وهذه القوانين تنطبق على الفرد كما تنطبق على الجماعة.. وقد وعد سبحانه بأنه سوف ينجي المؤمنين إذا أصاب قومهم البلاء، قال تعالى: {.. كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (103) سورة يونس.
لقد بين لنا تعالى هول هذه الساعة، وبين لنا أن النجاة في عصرها، لا يكون إلا بالتقوى، أي الإيمان المبني على الشهود، إذ لا يمكن للإيمان التقليدي أن يثبت صاحبه أمام هذه الشدائد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (1ــ2) سورة الحـج.
هذا وقد ورد ذكر للساعة في الإنجيل أيضاً، وسنذكره في حينه.
ولا غرابة، فالسيد المسيح عليه السلام عِلْمٌ للساعة، وهو المعني بالأمر، وهو المأمور بإعلاء كلمة الحق في الأرض من قيام الساعة وإلى يوم القيامة بإمداد من الله تعالى، ولكن فهمت النصارى كما فهم المسلمون بأن الساعة التي يأتي بها هي ساعة يوم القيامة.
أقول: ما فائدة مجيء الرسول عليه السلام عند يوم القيامة؟!.
أما انتهت فترة الامتحان؟!. أما ينتظر الناس ليؤتى كلٌّ منهم كتابه؟!. إما بيمينه وإما بشماله، وما فائدة النصح وهل تنفع موعظة عندئذ؟!. أما كشف الغطاء وأصبح البصر يومئذ حديد؟!.
لذلك فإن الهلاك سوف يحلُّ بساحة البشرية إذا خالفت السنن أو القوانين التي أوجدها تعالى لهم، وتجاوزت إلى نقطة اللاعودة إلى الله عز وجل. لقد ضرب تعالى من الأمثلة العملية فيما حل بالأمم السابقة، عندما تجاوزت تلك السنن الموضوعة لسعادتهم، ولم يقبلوا بتحطيم الحواجز التي حالت بينهم وبين السبيل إلى الله تعالى، كقوم نوح عليه السلام وقوم عاد وثمود وفرعون...
أما اليوم، فمهما بذلت البشرية من جهد لكي تتخلص من الآلام والشقاء الذي حلَّ بها، أو من هذا القلق الحاد الملازم لها ملازمة الظلِّ لصاحبه، من هذا الضياع والضلال البعيد، ومن تلك المتاهات الفكرية المتعاكسة والمتشابكة، التي منها يظنون أنهم سوف يتوصلون إلى السعادة المنتظرة. فإنهم لن يفلحوا أبداً بذلك، ولن يفلحوا إلا بشرط واحد، هو العودة إلى إقامة شريعة الله في أرضه قولاً وعملاً، وأخذها بقوة، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا!. فلينظروا زلازل وبراكين وأعاصير مدمرة، وأمراضاً فتاكة، كما وقع ويقع اليوم، وبعدها ينظرون ناراً تصهر الحديد الصلب، وتُفتِّت الحجر الصَّلد، وما ذلك عن الظالمين ببعيد: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (102) سورة هود:هذا قانون، كل من سار بهذا السير، حق عليه الهلاك.
لقد ضرب لنا تعالى في كتابه العزيز الكثير من القصص عن هلاك الأمم، التي تخلَّت عن السنن الإۤلهية، واتَّبعت شرائع من وضع أهوائها، وبين لنا الأسباب التي حالت بينهم وبين الرجوع إلى دين الحق، ثم النتائج المؤسفة التي انتهوا إليها.
وكان تعالى قبل هلاكهم يرسل إليهم نذيراً، يحذرهم من مغبة معتقداتهم وأعمالهم المخالفة لسنن الوجود، ويبين لهم أن تلك المعتقدات لا تزيدهم إلا شقاء، ولا تزيدهم إلا بؤساً وابتعاداً عن منبع السعادة الحقيقية، إلا أن دعوتهم غالباً ما كانت لتلقى إلا آذاناً صماء وقلوباً غلفاً، ذلك لأن المادة قد أوصدت أبوابها على عقولهم، وأغرقتهم إلى الأذقان فهم مقمحون. لا يفلحون بل لجهلهم وعدم إيمانهم يستعجلون: {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ...}: ما حدث للأمم الغابرة، ماذا حلَّ بهم؟!.
هذا البحث من علوم فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو.
من كتاب السيد المسيح يلوح بالأفق
يعتبر موضوع الساعة من المواضيع الغامضة والمشوشة، ليس عند المسلمين وحسب، بل عند غيرهم من أصحاب الديانتين اليهودية والنصرانية.
لقد خلط علماء المسلمين، وعلماء النصارى، بين الساعة التي يأتي بها السيد المسيح عليه السلام، وبين الساعة التي تقوم بها القيامة. فكان معنى قولهم إذ قالوا: إن الساعة التي يأتي بها السيد المسيح، هي نفسها الساعة التي بها تقوم القيامة، وكما أن مفهوم الساعة غامض ومشوش لديهم، فإنهم لم يدركوا الغاية التي يأتي بها السيد المسيح عليه السلام.
فاليهود مثلاً الذين لم يعترفوا بالسيد المسيح عندما جاء في المرة الأولى، يأملون من مجيء السيد المسيح الحقيقي بزعمهم، أن يعيد لهم عزهم الآفل ومجدهم المنهار، وذلك بعد أن يصبح الملك العالمي.
والنصارى يأملون أيضاً، أن يدخلهم السيد المسيح ملكوت الآب، بعد أن كفر عنهم سيئاتهم وافتدى بدمه الخطيئة الأولى.
أما المسلمون فغايتهم منه عند مجيئه، أن يقتل الدجال واليهود، ويكسر الصليب، من غير أن تمسهم الأحداث التي ترافق مجيئه بسوء، وهم الآن على ما هم عليه، تلك أمانيهم، أما الحقيقة فليست كذلك، الحقيقة أن تتعرف على رب الحق والحقيقة، فإذا آمنت بالله من ذاتك بذاتك، عن طريق الاستدلال بالكون حق الإيمان، تجد كل مسألة في القرآن واضحة أشد الوضوح، مبينة كفلق الصبح.
إن الله سبحانه وتعالى قد ارتضى للبشرية حدوداً، ورسم لها سنناً، وأنزل إليها شرائع، فإذا تجاوزت البشرية تلك السنن، وتخطت تلك الحدود، وأهملت الشرائع، فإنها تفسد النفوس وبفسادها تفسد الحياة، وبما أن الفاسد المفسد والمتعمِّد بطغيانه، لا خير فيه، فالنار عندئذ مثواه، وبئس المثوى والمصير.
ولا أظن بعد هذا الذي بيناه، أن تظنَّ أن البشرية بمفازة من الهلاك، بل الأصح أنها أصبحت على قمة الهاوية، أو على شفا جرف هار، وهم الآن في سكرتهم يعمهون، وفي غمرتهم لاهون. ولقد أنذرنا تعالى كثيراً في كتابه الكريم، ولكن الآيات والنذر لا تغني لقوم لا يؤمنون. {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ،وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ،كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ،أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءةٌ فِي الزُّبُرِ،أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ،سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ،بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (40ــ46) سورة القمر.
أما وقد بين لنا تعالى نوع البلاء الذي أصاب كل أمة من تلك الأمم السابقة، فقوم سيدنا نوح وقوم فرعون قد أغرقهم، وقوم ثمود أهلكت بالطاغية، وعاد أهلكت بريح صرصر عاتية. أما أمم هذا العصر، فسوف تهلك بنار حامية، لا تبقي ولا تذر.
من كل ذلك نستنتج أنَّ البلاء بات وشيكاً، وفي أية لحظة، والكارثة آتية لا ريب فيها، وهي ليست من الظالمين ببعيد.
إن البلاء ليس قدراً محتوماً، لو رجعنا عمّا نحن فيه، لارتفع البلاء، ولأوجد الله لنا وسيلة، تخلصنا من هذا الخطر الجاثم على صدرنا، أمماً كنّا أم أفراداً.
قال تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (98) سورة يونس. فبابُ التوبة والرجوع إلى الله مفتوح ولا يغلق أبداً إلا عند الموت أو وقوع الهلاك.
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (18) سورة النساء.
لقد أطلق رب العالمين على هذه الكارثة اسم (الساعة) والساعة أينما ذكرت في القرآن فإنها عموماً تحمل معاني عدة: الساعة التي يموت فيها الإنسان، أو الساعة التي تقوم بها القيامة، أو الساعة التي نحن بصددها.
وإذا تركنا ساعة الموت، وساعة يوم القيامة حالياً واكتفينا بالساعة التي يأتي بها السيد المسيح عليه السلام، لوجدنا أن تسمية الحرب العالمية أو الحرب النووية القادمة، هي تسمية للحرب المطهِّرة: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } (46) سورة القمر: وهي الساعة المرافقة لقدوم السيد المسيح عليه السلام المنقذ للبشرية رسول السلام والطمأنينة والأمان بعد القلق المرهق والشقاء وطوبى لمولود زمانه. إذ وعده تعالى بقوله: {إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (55) سورة آل عمران.
وقد حق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة) أخرجه البخاري ومسلم.
وقوله صلى الله عليه وسلملاَ تَقُومُ السّاعَةُ إلاّ عَلَىَ شِرَارِ الْخَلْقِ): وهي ساعة هلاك العالم الفاسد، وقصم ظهر الكفر وأهله. إذ أن الحرب النووية القادمة تمتاز كغيرها من الحروب بالسرعة والمفاجأة، ولكن هذه الحرب تختلف من حيث الغاية عن الحروب التي سبقتها، إذ في الحروب السابقة كانت الغاية من السرعة والمفاجأة هي إحراز النصر، أما في هذه الحرب، أي الحرب النووية والهيدروجينية، فغايتها اتقاء خطر الفناء، والقضاء على الخصم قضاء تاماً، قبل إعطاء الفرصة له ليتمكن من الرد على خصمه. ولذا فإن البادئ في هذه الحرب، سوف يلقي أكبر كمية ممكنة من القنابل الذرية والهيدروجينية وغيرها من أنواع الأسلحة ذات التدمير الشامل، في الدقائق الأولى، للقضاء على العدو قضاءً مبرماً، ومحوه من الوجود، غير أن وسائل الإنذار الحديثة، والتيقظ التام سوف تفوت على البادئ هذه المباغتة، وسيتمكن الخصم من الرد عليه، وإفنائه أيضاً. لذلك فإن الحرب القادمة لا نصر فيها، بل هلاك شبه مبرم. ومن هنا يتبين أن الحرب القادمة سوف تكون سريعة، لا تتجاوز الساعة من الزمن، وسوف تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون.
قال تعالى:{يَسْأَلُونَكَ..}: بعد بيانك هذا:{..عَنِ السَّاعَةِ..}: يسألونك عن الساعة متى وقوعها، بدلاً من أن يفكِّروا في قولك ويتبّعوه، حيث إنهم لم يعبؤوا بقوله سألوه هذا السؤال:{..أَيَّانَ مُرْسَاهَا..}: متى وقوعها؟. {..قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ..}: لا أحد يعلم وقتها، أنا مُبلّغ لا أعلم الوقت، ولكن لها إشارات وعلامات.
{..ثَقُلَتْ..}: عظُمت: هولها عظيم، من فوقهم ومن تحت أرجلهم، نيران وزلازل، لا تبقي ولا تذر. أتدري ما فيها من هول؟. فقط تسأل عنها!. ماذا أعددت لها؟.
لو فكَّر لعرف عظمة الله ولما سأل هذا السؤال، بل لخاف منها: {..فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ..}: هول، شدائد من السماء والأرض، من الأرض ينبعث بلاء، ومن السماء بلاء: {..لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً..}: على غفلة، على حين غِرَّة. لكن البلاء ما هو فقط بلاء الدنيا: بلاء في الدنيا وفي الآخرة: {..يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا..}: كأنك لا تعرف شيئاً عنها، ولا تعلمها. كأنك لا تدري عنها شيئاً: تريد أن تُخلِّصهم من العذاب، وهم يريدون أن يمتحنوك امتحاناً. وهم كفرة اليهود، إذ أرادوا امتحان الرسول لأنها مذكورة عندهم: {..قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ..}: وقت وقوعها لا يعلمه سواه: {..وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ}(187) سورة الأعراف: هذا الهول الذي فيها.
لا يعلمون شيئاً عنها ولا يفكِّر فيها أحد. والله عليم أن وقتها قريب جداً وجميع الإشارات وقعت. فما أشقى من لا يفكِّر ويستعد لها!. كما أنه ورد في الأثر عنه صلى الله عليه وسلم يحدثنا عن القنابل النووية والهيدروجينية: (لا تقوم الساعة حتى تزول الجبال عن أماكنها وترون الأمور العظام التي لم تكونوا ترونها) كنز العمال ج14 رقم/38571/.
إن ما يحول بين الناس وبين الله، هو حب الدنيا الدنية بهذه الحضارة المادية العمياء المدمرة، التي طغت على عقول الناس وقلوبهم، لذا فإن الرجوع إلى الله مرهون بإزالتها، وبما أن البشرية لا تتنازل عن هذه الحضارة الدنيوية طوعاً، فإن الله هو الذي يزيلها، وعلى أيدي صانعيها، قال تعالى في سورة النحل (26): {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ}: عملوا تدبيرات وحيل وترتيبات لرد الحق فأتى الله بنيانهم من أصله فخرَّ عليهم ما صنعوه، ونزلت قنابلهم عليهم، هم دبّروا لصدِّ الناس عن الحق، والله أرسل لهم بلاء فالسكين التي حدَّها ضرب نفسه بها، أذاه عاد عليه: {..ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ..}
إن البشرية لم ولن تمر عليها كارثة بلغت من الشدة مثل ما ستبلغه هذه الكارثة. ولن ينجو منها إلا كل مؤمن، أو من عنده القابلية للإيمان. أما الملاجئ الأرضية فإنها لن تغني من الله شيئاً، إن شاء أن يهلكهم، ومنطق هذه الحرب يؤكد ذلك، فالذين لم يُقض عليهم من الصدمة الأولى، فإن الإشعاعات الذرية والتلوث، وفساد الجثث، والزلازل، ستحول بينهم وبين الحياة، بعد خروجهم من الملاجئ، ولا ندري أيضاً ما سيخرج لهم من باطن الأرض. فالإنسان لا يستطيع أن يبقى في الملجأ زمناً طويلاً، ولو افترضنا أن كل شيء قد هيئ فيه، فإن الحياة خارجه غدت مستحيلة، فكل شيء خارج الملجأ غدا هامداً لا حراك فيه، هدوء مرعب، إلا من أنين الرياح، لا أهل ولا بيت ولا ولد إذ أن كل شيء قد تحول إلى رماد.
ترى ماذا تتصور أن تكون حال هذا الإنسان الذي خرج من ملجئه بعد حين، ناهيك عن الغبار الذري المرعب وآثاره السامة، إن حالته النفسية سوف تبلغ حد الجنون أو الانهيار. وسيدرك المتفائلون بإعادة الحضارة بعد الحرب من جديد، أنها أماني، وأن ذلك لرجع بعيد.
إن الدمار سوف يكون متناسباً مع شدة الفسق، وعلى أساس ذلك فإن مناطق المعسكرين الشرقي والغربي، ستصبح قاعاً صفصفاً، وستكون جثث شعوبها حطباً لتلك النار، ومن ثم رماداً تذروه الرياح. وسوف لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم بعد ذلك ركزاً.
أما منطقة الشرق الأوسط خاصة التي هي مهد الأنبياء، فسوف يكون حظها من الدمار أقل، وهذا لا يعني أن تبقى فيها بعض مظاهر الحضارة فهذا محال، فهي كغيرها من المناطق، ستعاني من الزلازل الأرضية والمجاعة، الشيء الكثير، وسوف تكون مسرحاً للحروب التقليدية، ولن ينجو منها إلا القليل، بعد أن تكون الحرب قد أخرجت لهم كل أمراضهم النفسية، وهيأتهم للطهارة نتيجة التجائهم إلى الله، من شدة ما سيعانون، من الجوع والخوف والألم.
لذلك فالملاجئ التي يجب أن نعدها فقط، هي الالتجاء إلى الله، والالتجاء من الآن، ولن يفيد الالتجاء إذا أزفت الآزفة، إذ ليس لها من دون الله كاشفة، فالتوبة، والاستعداد، والتحرُّس يجب أن يكون قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه الدعاء.
انظروا إلى الأمم السابقة ماذا حلَّ بهم:
قال تعالى في سورة الأنبياء (11):{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً..}: مثلكم: {..وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ }: فكِّر بمن سبق أين هم الآن؟.. ماذا كانت نتائج أحوالهم؟.. وأنتم إن لم ترجعوا للحق ستُهلكون: هذا تهديد عام لكل منحرف.
فالإنسان ولو عرف بفكره فلن يستفيد شيئاً، لا بدَّ من العقل: بالعقل الإنسان يعرف الحقائق. {..فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا..}: جاء البلاء ، جاءهم الهلاك: {..إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ}: من البلد، تراكضوا ليخلصوا من البلاء. لمَّا حصلت الزلازل: أين المفر؟.. ستُسأل غداً عند الموت عن الصوم، الصلاة، الحج، كل شيء له صورة وحقيقة، والحقيقة بلا صورة لا تفيد، والصورة بلا حقيقة لا فائدة منها: لا بدَّ من الجمع، فالذي يأتي بالصور لا يستفيد شيئاً. {..لَا تَرْكُضُوا..}: أنتم غداً مثلهم. قلنا لهم قبل ذلك على لسان رسلهم لا تركضوا غداً عند البلاء، هكذا قالت الرسل: {..وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ..}: لا تفسدوا الخلق, عملكم هل هو منطقي وطيِّب؟.. {..وَمَسَاكِنِكُمْ..}: التي تسكنونها، ما سكنت نفوسكم فيه من الدناءة والخبث، وانظروا إلى هذه المدن من حكمها؟. من سكن بها؟. أين هم الذين سبقوا وعاشوا قبلك؟.
هل ستبقى أنت وتخلد؟. {..لَعَلَّكُمْ..}: تعرفون إن فكَّرتم فتدركون أنكم بعد هذه الحياة:
{..تُسْأَلُونَ}: تعرف لماذا خلقت وتتدارك الأمر فتعرف أنك ستُسأل عن هذه الأشياء كلها: ستُسأل عن كل ما فعلت. أما إن لم تفكِّر، فلن يخطر السؤال لك على بال.
{قَالُوا يَا وَيْلَنَا..}: عند نزول البلاء عليهم: {..إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}: ولكن ما الفائدة من هذا القول عند البلاء والهلاك؟.. {فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ..}: ومعارضتهم للحق وتكذيبهم لرسلي: {..حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}: إذا ظلَّ الإنسان متعلِّقاً بالدنيا "لا يفكِّر بالموت"، فإن لم يفكِّر بالموت، يظل مكذِّباً للحق.
وهذه الواقعة، سوف لا ينجو منها إلا كل مؤمن، أو من هو قابل للإيمان، إذ في هذه الساعة سوف يهلك كل مجرم، أما الذين لديهم قابلية للإيمان، فإن الحق سيعرض عليه إما على لسان السيد المسيح عليه السلام، وإما على لسان أتباعه، فإن آمن واهتدى وصدق بالحسنى، فسوف يحيا حياة طيبة في الدنيا، وفي الآخرة يكون من الصالحين، وإلا سيهلك مع الهالكين. إن البلاء سوف لا يأخذ الصالح بجريرة الطالح، كما أنه ليس صحيحاً المثل القائل: (الرحمة مخصصة والبلاء يعم) وهو مثل مغلوط، فالقرآن الكريم كلُّه وبه الحجة البالغة، لا يؤيد هذا الزعم، بل يبين أن الرحمة مخصصة، والبلاء مخصص أيضاً. إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا عن الأقوام السابقة التي أهلكت، أنه قد نجّا من بينهم المؤمنين، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} (58) سورة هود. {فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (66) سورة هود.
وقل مثل ذلك عن قوم لوط، وأهل مدين وغيرها من الآيات.
تلك سنن وقوانين لا تتبدل ولا تتغير، وهذه القوانين تنطبق على الفرد كما تنطبق على الجماعة.. وقد وعد سبحانه بأنه سوف ينجي المؤمنين إذا أصاب قومهم البلاء، قال تعالى: {.. كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ} (103) سورة يونس.
لقد بين لنا تعالى هول هذه الساعة، وبين لنا أن النجاة في عصرها، لا يكون إلا بالتقوى، أي الإيمان المبني على الشهود، إذ لا يمكن للإيمان التقليدي أن يثبت صاحبه أمام هذه الشدائد.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } (1ــ2) سورة الحـج.
هذا وقد ورد ذكر للساعة في الإنجيل أيضاً، وسنذكره في حينه.
ولا غرابة، فالسيد المسيح عليه السلام عِلْمٌ للساعة، وهو المعني بالأمر، وهو المأمور بإعلاء كلمة الحق في الأرض من قيام الساعة وإلى يوم القيامة بإمداد من الله تعالى، ولكن فهمت النصارى كما فهم المسلمون بأن الساعة التي يأتي بها هي ساعة يوم القيامة.
أقول: ما فائدة مجيء الرسول عليه السلام عند يوم القيامة؟!.
أما انتهت فترة الامتحان؟!. أما ينتظر الناس ليؤتى كلٌّ منهم كتابه؟!. إما بيمينه وإما بشماله، وما فائدة النصح وهل تنفع موعظة عندئذ؟!. أما كشف الغطاء وأصبح البصر يومئذ حديد؟!.
لذلك فإن الهلاك سوف يحلُّ بساحة البشرية إذا خالفت السنن أو القوانين التي أوجدها تعالى لهم، وتجاوزت إلى نقطة اللاعودة إلى الله عز وجل. لقد ضرب تعالى من الأمثلة العملية فيما حل بالأمم السابقة، عندما تجاوزت تلك السنن الموضوعة لسعادتهم، ولم يقبلوا بتحطيم الحواجز التي حالت بينهم وبين السبيل إلى الله تعالى، كقوم نوح عليه السلام وقوم عاد وثمود وفرعون...
أما اليوم، فمهما بذلت البشرية من جهد لكي تتخلص من الآلام والشقاء الذي حلَّ بها، أو من هذا القلق الحاد الملازم لها ملازمة الظلِّ لصاحبه، من هذا الضياع والضلال البعيد، ومن تلك المتاهات الفكرية المتعاكسة والمتشابكة، التي منها يظنون أنهم سوف يتوصلون إلى السعادة المنتظرة. فإنهم لن يفلحوا أبداً بذلك، ولن يفلحوا إلا بشرط واحد، هو العودة إلى إقامة شريعة الله في أرضه قولاً وعملاً، وأخذها بقوة، فإن لم يفعلوا ولن يفعلوا!. فلينظروا زلازل وبراكين وأعاصير مدمرة، وأمراضاً فتاكة، كما وقع ويقع اليوم، وبعدها ينظرون ناراً تصهر الحديد الصلب، وتُفتِّت الحجر الصَّلد، وما ذلك عن الظالمين ببعيد: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (102) سورة هود:هذا قانون، كل من سار بهذا السير، حق عليه الهلاك.
لقد ضرب لنا تعالى في كتابه العزيز الكثير من القصص عن هلاك الأمم، التي تخلَّت عن السنن الإۤلهية، واتَّبعت شرائع من وضع أهوائها، وبين لنا الأسباب التي حالت بينهم وبين الرجوع إلى دين الحق، ثم النتائج المؤسفة التي انتهوا إليها.
وكان تعالى قبل هلاكهم يرسل إليهم نذيراً، يحذرهم من مغبة معتقداتهم وأعمالهم المخالفة لسنن الوجود، ويبين لهم أن تلك المعتقدات لا تزيدهم إلا شقاء، ولا تزيدهم إلا بؤساً وابتعاداً عن منبع السعادة الحقيقية، إلا أن دعوتهم غالباً ما كانت لتلقى إلا آذاناً صماء وقلوباً غلفاً، ذلك لأن المادة قد أوصدت أبوابها على عقولهم، وأغرقتهم إلى الأذقان فهم مقمحون. لا يفلحون بل لجهلهم وعدم إيمانهم يستعجلون: {بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ...}: ما حدث للأمم الغابرة، ماذا حلَّ بهم؟!.
هذا البحث من علوم فضيلة العلامة الكبير محمد أمين شيخو.
من كتاب السيد المسيح يلوح بالأفق